يقود الفضول المعرفي الكاتب المصري نبيل فاروق في روايته "صرع" حيث يستدرج القارئ من خلال أسئلته المشككة وافتراضاته الغريبة إلى
أفق الخيال، ليرتحل معه في اقتفاء التخمينات والفرضيات المنقبة في ماهية الأمور، ضمن فضاء يعد حديثا في المدونة السردية العربية.
ومن خلال سؤال: ماذا لو أن العقل البشري يخفي في أعماقه ما لم نفهمه
أو ندركه بعد؟! يسعى فاروق عبر حبكة بوليسية وتشويق درامي إلى تقديم
الافتراضات والاجتهادات المتخيَّلة على سؤاله: أهناك سرٌّ تخفيه عنا عقولنا
أم أن الأمر مجرد صرع؟!
وتنطلق الحبكة الروائية من تعرّض "شيماء" -وهي فتاة في الثانية عشرة من عمرها- لنوبات صرع دائمة وشديدة الإيلام، وبعد انقطاع السبل بأهلها الموسرين يدلَّهم الطبيب المشرف على حالتها إلى أحد الأطباء المصريين المهتمين بأبحاث في هذا المجال، ليجري لها عملية جراحية يستأصل خلالها كتلة من مخّها، يعتقد أنها المتسببة في نوبات الصرع لها، وذلك بعد موافقة كتابية من أهلها، باعتبار العملية هي الأولى من نوعها.
يهدي فاروق روايته، الصادرة مؤخرا عن دار بلومزي بالدوحة والتي تضم ستة عشر فصلا، إلى الدكتورين أحمد صبري عمّار، ومحمد علي أحمد، اللذين أوحت إليه أبحاثهما الرائدة المشتركة في هذا المضمار بأحداث روايته، كما يقول.
ويحضر الباحثان في النص الروائي عبر شخصيتَيْ أحمد ومحمد، وهما الطبيبان اللذان يتفقان على إجراء أبحاثهما معا، أحدهما متخصص في الفيزياء والآخر في المخ والأعصاب، يدمجان أبحاثهما ويشتغلان على فك بعض ألغاز العالم، ويكون التركيز على فهم حالة شيماء ثم الانطلاق نحو تشريح حالات كثيرة، ويتعرضان أثناء ذلك لتهديدات من كائنات غريبة، تبدو لهما كأنها من عالم آخر.
تظهر اكتشافات الطبيبين أنه يتم زرع شيء في المخ البشري يتسبب بالصرع، يسمى "ذرّة الأسر" ويكون ذاك من قبل كائنات وعوالم أخرى تهيئ لغزو الأرض واحتلالها، ذلك أن ما يتم زرعه يجبر على تنفيذ التعليمات المتلقاة بنوع من الإذعان الأعمى.
يشغل البحث ما وراء الأحداث والوقائع، وما وراء المعلوم والمكشوف، بال الباحثين، حيث يكادان ينفصلان عن واقعهما. فتعرض عدد من الناس لأشعة غريبة (كهرومغناطسية) تؤدي إلى سلوكيات غريبة وتصرفات غير متوقعة، تبدأ في الإسكندرية، حيث في لحظة واحدة يقوم أناس مختلفون بالسلوك نفسه، الوقوف والتأمل في البحر، ثم يُغمَى عليهم.
وتنتشر هذه الحوادث في أماكن مختلفة ليدخل آلاف المصريين في غيبوبة مما يستدعي تدخل الأجهزة الأمنية التي تغرق في حيرة وتردد ويلتبس عليها الأمر، فتارة تنسب الأمر لوجود تنظيم سري وتارة أخرى إلى حالة مرض عابرة، وفي كل الأحوال -وفق الرواية- تكون تلك التصرفات رسائل مشفّرة تحوي رموزا وعلامات ودلالات يسعى الباحثان لفكها والتعامل معها.
تجمع رواية فاروق بين عوالم أفلام بوليسية وأخرى خيالية مع جانب من الدراما والتشويق، ويتذكر القارئ من خلال نص فاروق الكائنات الفرانكشتانيّة السينمائية، وكذلك رواية "الرجل الخفيّ" للإنجليزيّ هربرت ويلز (1866- 1946) الذي يُعَدّ من الرواد في كتابة رواية الخيال العلمي، ومزج بين التخيّل العلمي والأدبي.
ويكون التقارب مع ويلز بخاصة في رسم شخصيات الرجال المخفيين الذين يجتاحون العالم في حوادث متفرقة مؤثرة ضمن حدود بعينها، محذرين من التمادي في البحث ووجوب التوقف عن ذلك، وكذلك يحضر تناص مع رواية "النهاية 2012" لويليام غلادستون، وتحديدا في الخاتمة حين يجتمع مبعوثا العالمين في نقطة محدّدة، والتحدّث في التفاصيل وكشف الأسرار.
وإذا كان عمل فاروق الروائي يتحرك تحت تأثير بعض روايات وأفلام الخيال العلمي، فإنه يحور الفكرة المركزية المتمثلة في إنقاذ العالم لينقلها من الغرب إلى الشرق، ومصر تحديدا، في إشارة إلى استعادة الدور الحضاري والإرث التاريخي، حيث يقوم العالِم المصري بإنقاذ العالَم بعد استلام رسائل تحذير من المستقبل، وذلك من خلال فكرة السفر في الزمن، المطروقة في عدد من الأعمال السينمائية.
كما يحضر في الرواية تأثر بالأعمال البوليسية الشهيرة سواء أغاثا كريستي، أو الإنجليزي آرثر كونان دويل مبتكر شخصية شارلوك هولمز، ويستشهد فاروق بهما في روايته، ويثني على بعض آرائهما في التقصي والتحقيق.
النهاية التي يختارها الكاتب تبدو متفائلة في خضم صراع العوالم وحرب الكائنات الخفية القادمة إلى الأرض، والحالمة بغزو الكوكب، إذ تجتمع لجنة مختارة من كبار مسؤولي الدولة، وضمنها الباحثان، مع كائنين قادمين من المستقبل، أرسلهما أحد علماء الغد إلى الراهن لينذر من خطورة القادم، ويدلّهم على أنجع السبل لتلافي الدمار المرصود لاحقا، ويكون ذاك العالم ابن شيماء التي تلتحق بالاجتماع، لتشارك بدورها في عملية الإنقاذ.
وفي الرواية نوع من التسليم القدري الباعث على الطمأنينة والثقة في النفس بالآتي وبضرورة الإيمان بالمكتوب ما يبث الراحة في النفوس، ويفترض به أن يبدد الهموم والشكوك.
يبني صاحب "رجل المستحيل" افتراضاته على الاكتشافات العلميّة والاختراعات التكنولوجية، يستشهد بالغرائبي والكائنات مجهولة الهوية ويعتقد بأنها نتاج أبحاث سرية تقوم بها الدول الكبرى، لتنفذ عبرها أجندتها في الهيمنة على العالم، والتكتم على وسائل سيطرتها الغامضة، كما يثبت عددا من الافتراضات التي أطلقها كتّاب الخيال العلمي، وذلك في مسعى لتدعيم فكرته حول الألغاز التي يمكن استجلاؤها والعوالم التي يمكن الانفتاح عليها من خلال معالجة الصرع.
لا تعليق
إرسال تعليق