المواجهة الحضارية بين الشرق و الغرب في رواية ( السيدة فيينا ) ليوسف إدريس .. الشاعر / أحمد حنفى

لا تعليق

تعتبر رواية السيدة فيينا ــ فيينا 60 ــ للدكتور يوسف إدريس من روايات المواجهة الحضارية و التي 

ارتبطت بالغرب / الآخر ارتباطاً مباشراً ، ذلك الاتجاه الذي يرصد الصراع بين حضارة ( الشرق / 


الذات ) العريقة ذات التاريخ الحافل و التي تراجعت أمام حضارة ( الغرب / الآخر ) الاستعماري 


المتغطرس و ذلك من خلال الصراع الدائر بين أبطال الرواية الذين ينتمون للحضارتين أو يتعصب 


أحدهم لحضارة على حساب الأخرى ، و كان لرواية ( قنديل أم هاشم ) للأديب الكبير يحيى حقي 


فضل تسليط الضوء على هذا الصراع و التي فتحت الباب أمام العديد من الروايات الأخرى و التي 


اصطلح النقاد على تسميتها بروايات المواجهة الحضارية .


و الرواية التي بين أيدينا تعد إحدى هذه الروايات و إحدى روايتين لكاتبهما د. يوسف إدريس هما 

السيدة فيينا ــ فيينا 60 ــ و رواية نيويورك 80 ، و الأولى هي التي نعرض لها بالتحليل الآن كمحاولة 

لاستكناه ذلك الصراع من وجهة نظر كاتب عاش بالغرب فترة و تعلم فيه .

و قد دارت أحداث الرواية في قلب أوروبا / الآخر بعاصمة النمسا فيينا مدينة الأنس ، و بطل الرواية 

هو ( مصطفى ) أو ( درش ) كما هو شائع في المجتمع المصري ، موظف مصري ظل يكافح لمدة 

ستة أشهر كاملة ليوفد إلى هولندا في مهمة رسمية ، و تمَّ له الانتصار بعد كفاحه بكل الطُّرُق 

المشروعة و غيرها .

فالمهمة التي أراد الذهاب فيها لأوروبا رسميَّةً ــ اسماً ــ و لكنها للفسحة و التفرج في حقيقة الأمر و 

إذا كنت من المدققين فهى من أجل النساء الأوروبيات تحديداً !


( كان درش إذن قد انتهى من النساء في مصر ، و ذهب و في نيته أن يغزو أوروبا المرأة ) [1]


فدرش كان مهتماً بالنساء و له تجارب عديدة معهم ، فهوايته هي النساء ــ على حد تعبير د. يوسف 

إدريس ــ لكنه أراد أن يتذوق طعم ( المرأة الأوروبية / أوروبا المرأة / السيدة فيينا ) و ذلك محور 

الرواية كما سنرى .

فما كاد يُنهي مهمته بهولندا حتى أسرع إلى مدينة الأنس ليبحث عن سيدته ، و لأن درش قد ذهب 

إلى أوروبا جرياً وراء غرائزه و دون هدفٍ آخر حقيقي ، و لأنه كان ولِعاً بأوروبا مبهوراً بها ، كان و هو 

يبحث عن ضالته المنشودة في فيينا في ليلته الثالثة حائراً زائغ البصر .


( و ها هو ذا له يومان في فيينا ، و تلك هي ليلته الثالثة في مدينة الأُنس و الأحلام و لم يحدث 

شئ ، مع أن النساء أمامه و خلفه و حوله و في كل مكان ، نساء نمساويات فيهنَّ تتركز روح أوروبا 

، نساء من مختلف الألوان و الأعمار و الأشكال و كُلَّهنَّ بلا استثناء يتمتَّعنَ بقسطٍ وافرٍ من الجمال 

، حتى القبيحة لابد أن يكون جسدها جميل ، أو لابد أن تجدها صاحبة ذوق رفيع في اختيار 

ملابسها . كل واحدةٍ فيها شئ ، شئ من أوروبا ، و كل واحدةٍ لها ميزة . و عقله مشتت موزع ، و 

بصره لا يزال كما بدأ الرحلة حائراً زائغاً ) [2]



و مصر لا تمثل لدرش الوطن فقط ، بل تمثله بكلِّ ما فيه ..


( قرأ كلمة مصر ، و دقَّ قلبه بانفعالٍ فلابد أنَّ الجريدة تتحدث عن شئٍ حدث هناك ، و في 

غمضة خاطرٍ واحدةٍ كان قد احتوى مصر بكلِّ ما فيها خجولاً لا يكاد يطيق النظر لنفسه ، إذ كان 

لا يزال واقفاً في الميدان يُفتِّشُ بعينيه عن المرأة ) [3]



فمصر عنده ــ في ذلك الوقت تحديداً ــ هي زوجته أيضاً ، و ابنته الصغيرة ، و عادات و تقاليد 

مجتمعه ، و هي البراءة و الطهارة و العفَّة الشرقية التي جعلته خجولاً من تصرُّفاته في أوروبا .

و لأنه لا يهتمُّ سوى بالرغبة فتصرُّفاته دائماً تميلُ إلى الفوضوية ، و هو ما يجسده موقفه مع الفتاة 

النمساوية ذات الستة عشر عاماً حين أراد جذبها إلية عنوة تحت أثر السُّكر و الخوف من ضياع 

الوقت دون أن يحظى بلذَّته أوروبية المذاق . [4]


و تتكشَّف لنا شخصية درش خطوةً فخطوة ، فهو صاحب مبدإٍ في نظرته للمرأة ، فكما تخصَّص في 

البنات ( الخام ) في مصر كان يريد أن يتعرَّف على امرأةٍ أوروبيَّةٍ أصيلةٍ و ذات شخصيَّة ، تريده لذاته 

و لا تريده لنقوده و تمنحه نفسها بمطلق إرادتها . [5]

و تُطلُّ علينا أمريكا من حيث لا ندري ، فهؤلاء البحارة الأمريكان الذين نافسوه على المرأة الأوروبية 

قطعوا عليه كلَّ السُّبُلِ لممارسة هوايته ... و لكن لماذا أمريكا الآن ؟!

حتى هذا التَّساؤل طرحه درش و قد فعلت البيرة أفاعيلها في رأسه .


( و هكذا بدأ يُلقي بتحيَّات المساء ذات اليمين و ذات اليسار بصوتٍ مرتفعٍ ضاحكٍ ، غير مُبالٍ أن 

يردَّ عليه أحد . و إذا توجَّه بتحيَّةٍ إلى امرأةٍ و أشاحت بوجهها في استنكارٍ و تقزُّزٍ ، أخرج لها لسانه 

و كاد يقول : يلعن أبوكم . يعني ما ينفعش إلا الأمريكان ؟ ) [6]



و لكن هذه الرَّغبة التي يهتمُّ بها درش بل و التي سعى إلى أوروبا من أجلها كانت مُغلَّفةً بنفس إطارِها 

الشرقيِّ المعتاد عند درش نفسه ؛ فهو ينتظر من الفتيات اللائي تركنَ البحَّارة الأمريكان أن يبدو 

عليهنَّ أقَلُّ بادرةٍ حتى يُقدِمُ على إحداهنَّ ــ حتى و هو ليس في كامل وعيه ــ فمازالت شرقيته تطغى 

عليه . [7]


و لعلَّ هذه الشرقية التي مازالت مسيطرةً على تصرُّفاته من فوضويَّةٍ و أساليب قديمةٍ لإيقاع المرأةِ قد 

دفعته إلى شعوره الدَّائم بأنَّه غريبٌ ـــ خاصة في الأوقات التي يتسلَّلُ إليه فيها الإحباط ــ و دائماً ما 

يُعاوده الحنينُ إلى بلده . [8]

و قد يتجلَّى ذلك الصراع بين إحساسه بالغربة حين يتذكَّر زوجته و ابنته الصغيرة ببراءتهما المعهودة ، 

و بين ما يحاول هو بذله في فيينا من أجل تلك الرغبةِ و سعيه الحثيث وراء ذلك .


( و لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يعاوده فيها إحساسه بالحنين إلى بلده و كلما شمَّ رائحة 

السجق و هو يُقلى ، كلما سمع رطانةً ألمانيَّةً لا يفهم منها حرفاً ، كلما حدَّق في سيِّدةٍ و لم تأبه له 

، عاوده الحنين إلى بلده و شقَّته المحندقة في شارع ابن خلدون ، و زوجته النقيَّة الصَّافية كدعوات 

المجاذيب في حيِّ الحسين ........ و هو هنا ، في قلب فيينا ، يبحث عن امرأةٍ يُجرِّبُ طعمها 

الأوروبي ، و الساعة قد جاوزت مُنتصف الليل ! ) [9]


و حاول درش أن ينسى كلَّ ما تذكَّره الآن عن وطنه و زوجته و طفلته ، حتى لنراه مُصِرّاً إصراراً 

عجيباً على أن يُحقِّقَ ما أتى إليه بعد شهورٍ من الجهد المتواصل ، و هذا يؤكِّد على أنَّ هذه الرغبة قد 

طغت على أهمِّ و أدقِّ تفاصيل للبراءة في حياته مما جعله يذعن لرغبته دونما تفكير .

و الغريب أن درش يريد أن يمارس التطهير مع ذاته عن طريق تأنيب الضمير و محاولات جلد الذات و 

التي لم تستطع الصمود أمام رغبته الجارفة في تذوق جسد سيدة أوروبية .

و أخيراً ..

وجد درش ضالته المنشودة / امرأته الأوروبية بعد سلسلةٍ من المتاعب و الإحباطات المتوالية ، و بعد 

أن مارس عليها سياسة فرض النَّفْسِ ذهب معها إلى بيتها برغبتها و بكامل إرادتها ، و لكن فوضويَّته 

الشرقية أبت أن ينتظر حتى يصل للبيت دون أن يُقبِّلَها في الطريق المظلم المؤدي لمنزلها ، و سرعان 

ما عقد مقارنةً بين نساء أوروبا و نساء مصر ـــ الشرقيات عامة ـــ ...


( و فارت الدماء في عروقه .. هذه هي المرأة و إلا فلا . النساء في الشرق جثثٌ لا نستطيع أن 

ننالهُنَّ إلَّا رغماً عنهنَّ ، حتى لو كُنَّ يذُبنَ غراماً فيك . لا يرضيهنَّ إلَّا أن يُؤخذنَ عُنوةً ، و لكن 

المرأة هنا ، يا سلام تُقبِّل المرأةَ فتقبِّلُك ، تحضنها فتحضنك ، تأخذها فتأخذك ، هذا هو الشغل 

المضبوط ، هذه هي المساواة الحقيقية بين الرَّجُلِ و المرأةِ . ) [10]


و هذه المقارنات السريعة و التي عقدها بين المرأة الغربية و نظيرتها الشرقية أثَّرت عليه بالسلب أثناء 

مُضاجعته لسيدته النمساوية من قلقٍ زائدٍ و خواطرَ مُتتاليةٍ غزت عقله كادت أن تُفسد عليه ليلته و هو 

على الفراش معها .

و على المقابل كانت رغبتها في مضاجعة أميرها الشرقي حلم يراودها من زمن أن سمعت عن الشرق 

و سحره مما أكَّد أنَّ النزوع إلى الآخر مُتبادلاً بين الطرفين ( الشرق و الغرب / الذات و الآخر ) .

و حين فشل درش في إقامة علاقة جنسية مع سيدته النمساوية ، بل حين توقفا للتدخين لم يستطع 

حتى أن يفكر فيها وهي تتمدد إلى جواره عارية تماماً ، بل حين لا يفكر فيها يشعر بالارتياح و يتذكَّر 

لحظتها زوجته ( أنيسة ) تلك المرأة البسيطة التي تأمن له و تحبه .

و يغمض عينيه حتى لا يرى سيدته النمساوية و يأمرها أن تُطفئ النور و هو مازال مغمض العينين ، و 

بعد أن اطمأنَّ بأنَّ النور قد أُطفئ لم يفتح عينيه أيضاً و كأنَّه لا يريد أن يرى إلَّا فراشه و ( نوسته ) ..


( و لبرهة خاطفة ظنَّ درش أنه يحلم ، و لكنه كان فعلاً يُحيطُ امرأةً بذراعيهِ و كان يُغمضُ عينيه ، و 

خاف لو تحرَّكت المرأة أن تطير " نوسة " من خياله فأمرها أن تتحرَّك .......و حتى بعد أن اطمأنَّ 

إلى أنَّ الظلمة قد سادت الحجرة لم يفتح عينيه . كان لا يريد أن يرى شيئاً ، فهو لا يرى إلا فراشه 

و " نوسته " ، و لا يسمع إلَّا همساتها الرقيقة له ، و أصوات بائعي الفول " الحراتي " حين ينادون 

عليه من بعيد في شارع ابن خلدون .) [ 11 ]



و استطاع كلٌّ منهما أن يقيم علاقة جنسية ناجحة مع الآخر في نهاية الأمر حين تخيَّل كلٌّ منهما أنه 

مع رفيقه / زوجه ، و أحس درش بأنه يودُّ مصارحة سيدته النمساوية بأنه لم يكن معها بل كان مع 

زوجته ، لكنه خجل من هذا حتى فوجئ بها وهي تقول له بأنها كانت مع زوجها لا معه على الفراش !

و قد ختم د. يوسف إدريس الرواية بقوله :


( و قبل أن يجتاز آخر بلوك في المبنى سمع درش جرس منبهٍ يدقُّ من بعيدٍ في إصرارٍ مكتوم . لا 

شكّ أنَّه منبهها ، و لا شكّ أنَّها تناضل إرهاقها و سهرها و الدفء ، و تحاول أن تغادر فراشها 

لتلحقَ بعملها و دنياها .و أحسَّ درش أنَّه لم يعد غاضباً على نفسه ، كلُّ ما أصبح يشغله في تلك 

اللحظة هو شعورٌ كان قد بدأ ينبثق في نفسه و حنينٌ غريبٌ جارفٌ إلى بلده .. و عائلته الصغيرة .. 

و الدنيا الواسعة العريضة التي جاء منها . ) [ 12 ]


و بهذا مارسَ درش التطهير بشكلٍ آخر غير تأنيب الضمير ، و ذلك عن طريق شعوره أنه لم يخن 

زوجته بل كان معها ، و لكن إحساسه الجارف بالحنين إلى بلده و عائلته الصغيرة هو الذي يؤكد نهاية التجربة .

بقيت مقارنة صغيرة بين درش و سيدته النمساوية ، أو بالأحرى نقاط التقاءٍ و تشابهٍ .. فهما :

( 1 ) كلٌّ منهما يبحث عن الآخر :

فدرش يبحث عن المرأة الأوروبية / السيدة أوروبا

أما السيدة النمساوية فتبحث عن أميرٍ شرقيٍّ يحلِّقُ بها في فضاء السحر و الخيال بعيداً عن المادية 

الغربية القاتمة .

( 2 ) كلٌّ منهما يعملُ موظَّفاً .

( 3 ) كلٌّ منهما طال غيابه عن رفيقه / زوجه .

( 4 ) كلٌّ منهما حين مارسَ الجنسَ مع الآخر تخيَّلَ ( رفيقه / زوجه ) للخروج من أزمة الفشل 

الجنسي .

و بهذا فليس درش وحده هو الذي يعبِّر عن انبهاره و رغبته و سعيه للآخر الأوروبي ، و لكن سيدته 

النمساوية – كنموذجٍ مُصغَّرٍ للسيدة فيينا / الغرب / الآخر – هي الأخرى تسعى في انبهارٍ إلى ( 

الآخر / الشرقي ) ، و إن كانت تلك الرغبة و ذلك الانبهار أقوى عند ( درش / الذات ) منه عند ( 

السيدة النمساوية / الآخر ) .

و كأن د. يوسف إدريس أراد أن يشير إلى ذلك الولع الشرقي بالغرب ، و لكنه و من طرفٍ خفيٍ أكَّد 

أن ذلك الغرب الأوروبي مازال منبهراً بالشرق و سحره ، فكلا الطرفين يسعى للآخر و يجد عنده ما 

يفتقده في حضارته التي ينتمي إليها .    






** بقلم / أحمد حنفي

الإسكندرية 2004

و المقال جزء من دراسة بعنوان ( الغرب في أدب يوسف إدريس ) - تعد حالياً للطبع



الهوامش


[ 1 ] رواية السيدة فيينا – فيينا 60 - ، د. يوسف إدريس ، طبعة مكتبة مصر . ص 79


[ 2 ] السابق ص 80


[ 3 ] السابق ص 81


[ 4 ] راجع الرواية ص 84

[ 5 ] راجع الرواية ص 86


[ 6 ] رواية السيدة فيينا ص 90

[ 7 ] راجع الرواية ص 91

[ 8 ] راجع الرواية ص 93

[ 9 ] رواية السيدة فيينا ص 94

[ 10 ] السابق ص 130

[ 11 ] السابق ص 157 ، 158

[ 12 ] السابق ص 160


>>>>>

بحث شامل فى علاج الخمول والتعب والأجهاد وطرق ووسائل التخلص منهما

لا تعليق

بحث شامل فى علاج الخمول والتعب والأجهاد وطرق ووسائل التخلص منهما

علاج التعب والخمول والارهاق الاجهاد هو حالة تعب بدني أو ارهاق تحدث رد فعل لمتاعب حقيقية أو متوقعة في الحياة.
>>>>>

بحث شامل عن النسيان وعلاجه وتحسين أداء الذاكرة

لا تعليق

بحث شامل عن النسيان وعلاجه وتحسين أداء الذاكرة



علاج ضعف الذاكرة والنسيان سمى الله سبحانه القرآن الكريم علماً فقال: { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم } وسماه نوراً فقال: {ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا} فالعلم والنور صفتان للقرآن الكريم .
>>>>>

نصائح هامة للتغلب على التجاعيد وإزالتها

لا تعليق

نصائح هامة للتغلب على التجاعيد وإزالتها
يمكن أن تحدث التجاعيد نتيجة لأسباب عديدة ومختلفة، وهناك طرق متعددة لمعالجتها.
>>>>>