" الصورة و براعة الاستهلال في قصيدة العامية " دراسة جديدة للشاعر / أحمد حنفى

3 تعليقات


( نص " تداخلات " للشاعر / أحمد عواد .. أنموذجاً )

 ( 1 ) النص :


( تداخلات )


عنيكِ زهرة دفا
و سنيني رعشة برد
مين فينا حيعدي الحدود ؟
مين اللي يقدر يدخل التاني ؟
و مين يعرف طريق الانفلات ؟
لسه السنين ..
بتخاف من الجاي و اللي راح
لسه الحروف متشرنقة
كل الكلام اللي انتهى ..
جايز ما يرجعش
و أنا لسه شايل بين حروفي فرحتك ..
و برتـلك ..
لحظة ما يبقى القلب بيخاصم عنيكِ ..
و ابدرك من أول التكوين ..
و انتهي لك ..
ألقاني بين لحظة جموحك ...
دمعتين ..
            و ســـؤال ...!

20 / 10 / 1998




[ ديوان : صهد البنفسج ، للشاعر / أحمد عبد الرازق عواد ، ص 65 : 66 ــ سلسلة كتاب راقودة ــ 13 ــ الطبعة الأولى ــ 1999 ]


( 2 ) براعة الاستهلال :


قديما ما بدأ شعراء العربية قصائدهم بما أطلق عليه البلاغيون بعد ذلك مصطلح ( براعة الاستهلال ) .. و التي تعد بمثابة العنوان الذي يدور النص في فلكه و يلقي بظلاله على معاني القصيدة ليغلفها بغلالته الشفيفة فلا نكاد نرى معنى إلا و لبراعة الاستهلال أثر فيه أو سبب لوروده أو نتيجة لحدوثه .
و كثيراً ما استخدم الشاعر العربي القديم اسم محبوبة وهمية كبراعة استهلال في فواتح قصائده ليكون اسمها هو المعنى الرئيس لقصيدته و هو الحدث الذي يأمل وقوعه و ربما يكون الملاذ الذي يرجوه للإفلات بحياته ؛ كما هو الحال في قصيدة ( بانت سعاد ) لكعب بن زهير الذي أهدر الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ دمه لما أحدث من أذى ؛ حيث تعرض للرسول الكريم بشعره مما جعله يشعر بضيق الدنيا أمام عينيه بعد أن رفضت القبائل أن تجيره و أنَّى لها ذلك و دولة الإسلام قد رسخت مبادئها في قلب العدو قبل الصديق و من ذا الذي يجير فرداً من دولة .. ؟! .. و من ذا الذي يدافع عن باطل أمام الحق .. ؟!
راح ( كعب بن زهير ) يسير متلفتاً في كلِّ اتجاه يترصده الموت أينما ذهب و حلَّ , يرفضه المجتمع العربي على اتساع جزيرتهم و يخشاه الصديق و ينكره الحكيم و يتربص به من سمع كلام الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ و أراد نوال رضائه طمعاً في شفاعته و غيرةً عليه و شفاءً لغليل ما لاقوه من عذاب و عنت قديم في مكة .
و هكذا تحولت حياته من لهو و مرح و ترف إلى جحيم و عذاب و وحدة يتوخاه الموت في كلِّ خطوة يخطوها و لم يجد بداً من المواجهة و الاعتذار و التلطف للرسول الكريم و التودد و التذلل لعله يلقى السعادة المفقودة حين يعفو عنه , هذه السعادة التي عبَّر عنها الشاعر و رمز لها في مطلع قصيدته باسم ( سعاد ).
( سعاد) أضحت هي الأمل الذي يرجوه و هي الخلاص الذي تبتغيه نفسه القلقة المتوثبة للطمأنينة .. ( سعاد ) هي السعادة التي بانت و فارقت قلبه و لذا فالشاعر حالفه الصواب حين بدأ قصيدته بقوله :
بانت  سعادُ فقلبي  اليوم  متبولُ       متيمٌ   إثرها   لم   يفد    مكبولُ
و ما سعاد غداة البين إذ رحلوا      إلا أغنُّ غضيضُ الطرف مكحولُ
 الآن نحتاج للدليل على أن هذه المرأة غير حقيقية و أن الشاعر جلبها تحديدا كبراعة استهلال بل نحتاج لدليل على أن ما فعله كعب بن زهير ليس مخترعاً و لا ظاهرةً انفرد بها عن باقي الشعراء , و الحقيقة أن القراءة الأولية للقصيدة و معرفة أين قُرِأت و أمام من و كيف لاقت من استحسان سنجد الإجابة على السؤال الأول ؛ حيث قرأها ( كعب ) أمام الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ و في مسجده بالمدينة و قد لاقت استحسان الرسول الكريم لدرجة أنه خلع بردته و ألقاها عليه و هو ينشدها .
و حين نطالع القصيدة نجدها و قد امتلأت بالوصف الحسي لحبيبته الوهمية , وصفا ليس ينبغي لنا أن نحمله على عين الحقيقة ؛ ذلك أن المقام لا يحتمل مثل هذا الوصف فالشاعر مهدر دمه , قلق , يقف أمام الرسول صاحب الحق الأول و الأخير في العفو عنه و يقف في مسجده و وسط صحابته من المهاجرة و الأنصار , يقف و لا يدري أمقتول بعد ذلك أم حر طليق يرفل في نسمات العفو , بالطبع المقام ليس للغزل و إنما للرجاء , فلم يصف أنثى اسمها ( سعاد ) و إنما وصف السعادة التي فارقته و يرجو وصلها من جديد .
و لم يكن ( كعب بن زهير ) أول من استخدم أسماء الإناث كبراعة استهلال لقصيدته و يبدو لنا ذلك من استحسان الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ للقصيده و استحسان صحابته , فهكذا كانت عادة العرب في أشعارهم .
و باستقراءٍ بسيطٍ للشعر قبل الإسلام نتأكد من قدم درايتهم بذلك الأسلوب البلاغي الذي اصطلح عليه بعد ذلك ببراعة الاستهلال و الذي لا نستطيع بدقة أن نقف على أوليته في الشعر العربي و الذي ربما لا يكون من درب المبالغة إذا اعتبرنا أولية هذه الظاهرة مصاحبة لأولية الشعر العربي .
و النماذج على تلك الظاهرة كثيرة في شعرنا العربي قبل الإسلام , و ربما يكون من المفيد أن نقف على نموذج آخر من شعراء عاشوا قبل ( كعب ) .. إنه ( المثقِّب العبدي ) و الذي وشى به أحد المقربين للملك ( عمرو بن هند ) حسداً له على مكانته عنده مما أثار قطيعة بينهما و أصبح ( المثقب العبدي ) بعيداً عن مجلس الملك , منبوذاً ـ على مكانته ـ , مقطوعاً بعد صلةٍ و قرب .
هكذا ثارت نفس الشاعر و انتابها ألم الفراق على تلك الصداقة بين الشاعر و الملك , ذلك الفراق الممزوج بوطأة الظلم ؛ ذلك أنه لم يرتكب بحق الملك ما يعكر صفوه تجاهه .
و تثور كرامة العربي داخل فلب الشاعر و يعترض إباؤه و شموخه على تلك المعاملة السيئة ؛ لتفيض مشاعره في قصيدة يريد من خلالها حسم هذه العلاقة التي شابها الاضطراب , إما بالوصل كما كانا و إما بالقطع و الاكتفاء بما حدث .
و كان على الشاعر الجري على عادة أقرانه في القول , و كان عليه اختيار اسم لحبيبة وهمية يُعبِّر عن حاله تلك , و تكون معادلاً موضوعياً للملك ( عمرو بن هند ) , يخاطبها فيخاطبه , و يعاتبها فيعاتبه , و يقسو عليها قسوة المحب فيؤنبه , و لم يكن ذلك الاسم ببعيد المنال عنه و عن شاعريته الفذة ..
فكانت قصيدته التي مطلعها :
أفاطمُ قبل بينك متعيني                 و منعك ما سألت كأن تبيني
إنـها إذن ( فاطمة ) .. و ( فاطمة ) في اللغة تطلق على المرأة التي فطمت رضيعها و قطعت عنه ثدييـها , و ( الفطم ) لغةً هو القطع و الحسم .
فماذا أراد ( المثقب العبدي ) إذن من ذلك المعنى بدلالته القاطعة الحاسمة ..؟
يبدأ ( المثقب ) قصيدته بأبيات يعنف فيها محبوبته الوهمية التي هجرته دونما سبب ، و التي تتلاعب بمشاعره النقية ، و هو على الرغم من ذلك لمَّا يزل يحبها و يحتفظ داخل قلبه لها بمشاعر دافئة جميلة .. يقول :

أفاطم  قبل  بينك  متعيني           و منعك ما سألت كأن تبيني
فلا تعدي مواعد  كاذبات            تمر بها رياح   الصيف دوني
فإني لو تخالفني شمالي            خلافك ما  وصلت بها  يميني
إذن لقطعتها و لقلت بيني           كذلك  أجتوي  من  يجتويني
( كذلك أجتوي من يجتويني ) إلى ذلك الحد البعيد من الجفاء قد يصل الشاعر برغم حبه لها .. ذلك الحب الذي لي يقضي على كبريائه و شموخه العربي .
إنه يريد أن يحسم علاقته بها , ذلك الحسم الذي قد يصل به إلى القطع و البين و الفراق .. إنه لا يحدِّث أنثى حقيقية , بل يخاطب ( عمراً ) في هيئتها كنوعٍ من التأدب في مخاطبة الملوك , إنه يبث إليه كل ما يدور بخلده و قلبه .. و إنه ليعلم أن ( عمراً ) سيعي ما يقول و يبث .
و جرياً على عادة العرب في القول وصف رحلته إلى ( عمرو بن هندٍ ) في وصف يعد الأروع في تاريخ شعرنا العربي كما ذكر شارح ( المفضليات ) .
إلى أن وصل به المقام إلى مخاطبة ( عمرو بن هند ) صراحةً في آخر قصيدته .... يقول : 
إلى عمروٍ و من  عمروٍ أتتني           أخ النجدات و  الحلم الرصينِ
فإمَّا  أن  تكون   أخي  بحقٍ           فأعرف  منك  غثى من  سميني
و إلا   فاطَّرحني  و   اتخذني          عدوَّاً   ...  أتقيك   و   تتقيني
و ما  أدري إذا  يممت  أمراً          أريد     الخير     أيهما    يليني
أألخير   الذي   أنا   أبتغيـه           أم   الشر  الذي   هو  يبتغيني
هكذا ذكرها صراحةً , إما أن يكونا صديقين و أخوين بحقٍ فيعرف كلٌّ منهما حقوقه و واجباته نحو تلك الصداقة – مع مراعاة المقام بين الشاعر والملك - ، و إما أن يتركه و يطَّرحه بعيداً فيصيرا عدوين لدودين يتقي كلٌّ منهما الآخر .
أليس ذلك حسماً للعلاقة و قطعاً لها ؟
ذلك الحسم و القطع الذي ظنه الشاعر خيراً فسعى إليه ، و لا بأس إن كان شراً لم يقصده ، لكن نفسه الأبية ستهدأ حتماً بذلك القطع .
و بهذا صارت ( فاطمة ) عنواناً للقصيدة ، تلقي بظلالها على كل معانيها كما كانت ( سعاد ) عند ( كعب بن زهير ) .
و حريٌّ بنا أن نعيد قراءة شعرنا العربي قبل الإسلام في ضوء تلك الظاهرة البلاغية ـ براعة الاستهلال ـ مع الأخذ في الاعتبار أن هناك شعراء ذكروا أسماء إناثٍ حقيقية في قصائدهم ممن لم يلتزموا بعادة العرب في عدم التشهير بأسماء محبوباتهم و الذين نالوا جزاءً مراً من مجتمعاتهم بالطرد و التصعلك حتى و لو كانوا أبناء ملوك كامرئ القيس و غيره ، أو أن يكون ذا سطوةٍ و قوةٍ كعنترة العبسي الذي طالب بابنة عمه صراحةً كزوجة له و ترفع عن وصفها الوصف الحسي الذي يشهر بها ، و هو على الرغم من ذلك يتشكك الكثير من الباحثين في معظم قصائده و يظنونها منحولةً عليه كأغلب سيرته التي دوِّنت في مصر أثناء الحكم الفاطمي ، كما أنَّ قصيدة ( المتجردة ) المنسوبة للنابغة الذبياني منحولةً عليه هي الأخرى .
و هناك من الشعر ما اعتبره البلاغيون براعة استهلال ، من ذلك مطلع معلقة امرئ القيس :
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ و منزلِ
حيث وقف و استوقف ، و بكى و استبكى ، و ذكر و استذكر .... إلخ ، كذلك قول أبي تمام :
السيف أصدق أنباءً من الكتبِ        في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ و اللعبِ
فكان مجمل ما سبق أن الشاعر إذا استهلَّ قصيدته بما يناسب الحال ، و بما يشير إلى غرضه كان ذلك براعة الاستهلال و التي تخاطب قلب و وجدان السامع فتجله متهيئاً مستعداً لأن يتقبَّل و يتفكَّر فيما سيلي ذلك من كلام.
و لمن أراد التوسع في ذلك عليه بقراءة كتاب ( براعة الاستهلال في فواتح القصائد و السور ) للراحل د. محمد بدري عبد الجليل ، و كتاب ( النابغة الذبياني ) للراحل أ.د. محمد زكي العشماوي , و كتاب ( رؤية جديدة ) للأستاذ د. سعيد حسين منصور .

( 3 ) قصيدة العاميَّة و الشعر العربي ( نسب شرعي ) :


إنها لنقلةٌ زمنيةٌ كبيرةٌ بين ( المثقب العبدي ) و ( أحمد عواد ) نخوضها بحذرٍ و نحن نتعامل مع ظاهرةٍ بلاغية جمعت بينهما ، أو بالأحرى جمعت بين شاعرٍ معاصرٍ و أسلافه من القدماء .
هذه القرون تركت أثرها على الشعر العربي ، و من منا لا يعلم ذلك ؟! .. بل تركت أثرها على ثوابت أخرى لم يظن القدماء أنها ستتغير و تتبدل ، من لغةٍ و بلاغةٍ و طرائق تعبيرٍ و بنيةٍ إلى شكلٍ و أوزانٍ و تشكيلٍ بصريٍّ و مجانيةٍ و موضوعاتٍ لم تُطرق و ذائقةٍ مغايرةٍ .
و على الرغم من ذلك البون الزمني الشاسع إلا أننا وجدنا ما يربط الحاضر بالماضي و ربما حدَّثنا عن المستقبل ، وجدنا وشائج و صلات لا تنعت الجديد إلا بالابن الشرعي للقديم و أنه ليس محدثاً و لا مخترعاً .
هذه الوشائج و الصلات هي ذاتها ما ظنها بعض القدماء ثوابت لن تتغير ، و تعاملوا معها باعتبارها جماداتٍ لا تنمو لكن حقيقتها و واقعها أنها كائنات حية تنمو و تؤثر و تتأثر و تعتلُّ و تصحُّ و تتخذ أشكالاً شتى ليس من عصرٍ إلى عصرٍ و لا من إقليمٍ إلى إقليمٍ فحسب و إنما من قصيدةٍ إلى قصيدة .
إن ما يربط معاصرينا بأسلافهم هي اللغة ذاتها بيد أنها نطورت ، و البلاغة نفسها و التي ربما اتخذت أشكالاً أكثر ملائمةً للعصر و لغته ، و الذائقة عينها و التي تطورت تبعاً لما أحدثه العصر في اللغة و البلاغة ، و أوزاناً حالفها النصيب الأوفر من التجديد و الابتكار ، و هدفاً أسمى للقصيدة و التي تبحث عن متلقى لا يشعر أنها غريبة عنه و عن لغته اليومية و حياته المعقدة و ذائقته الجديدة .
فلا غرو إذن أن نعد ( قصيدة العامية ) من شعرنا العربي و من تراثنا الإبداعي ، و لم لا و هي التي أفسحت لنفسها ذلك المجال و زاحمت قصيدة الفصحى ؛ متخذةً منها شرعيتها و من الجمهور الذي ساندها مكانتها .
و إننا حين نتحدث عن قصيدة العامية فكلنا يقينٌ أنها لم تنشأ من قبيل المصادفة و إنما من قبيل التطور ، ذلك التطور الذي لا نُقيـِّمه و إنما نتعامل معه بكل ما يمنحه لنا من أدواتٍ و خصائصَ ليست من الشعر بغريبةٍ و لا منكرة .
و بالرغم من كل ما سبق فقد زاد حذرنا الآن و نحن نحاول جاهدين أن نرى كيف لشاعرٍ معاصرٍ يكتب باللهجة العاميَّة أن يوظف موروثه البلاغي و يطوره و يطوِّعه لخدمة نصه ، لا لهدم التراث كما يدعي البعض .

( 4 ) المقابلة التصويرية و براعة الاستهلال :

( 4-1 ) شغف البدء :


أصبحنا شغوفين الآن لرؤية قصيدةٍ تعانق القديم برؤيةٍ بلاغيةٍ جديدةٍ ، قصيدةٍ أدركت تراثها العريض و لم تتورط في التقليد و لم تقع فريسة التكرار .
بالقطع ليست قصيدة ( تداخلات ) للشاعر / أحمد عواد ، هي النموذج الأوحد الذي استخدم براعة الاستهلال إلا أنها تُعد النموذج الأوضح على ذلك ، و ربما سيتضح ذلك حين نقف قليلاً على صورتين استهلَّ بهما قصيدته ، صورتان تنتمي أولهما إلى الصور الإيحائية ، بينما الأخرى تنتظم في سلك الصور التقريرية ، و ليس ذلك فحسب بل إنَّ بينهما مقابلةً في المعنى :
( عنيكِ زهرة دفا
و سنيني رعشة برد )

( 4-2 ) الصورة الإيحائية و الصورة التقريرية :


لن نطيل كثيراً في وقفتنا أمام الفرق بين الصورة الإيحائية و الصورة التقريرية ، لكننا سنعرض لنموذجين من الشعر العربي يوضحان لنا الفرق بينهما ، يقول ( السَّريُّ الرَّفَّاء ) :
و كأنَّ الهلال نونٌ لجينٌ           غُرقت في صحيفةٍ زرقاءِ
هذه الصورة السابقة لم تتعد كونها صورة فوتوغرافية شبَّه الهلال بحرف النون و لونه الساطع المتلألئ بلون الفضة المسالة و السماء بالصحيفة الزرقاء .
أي أنَّه شبَّه شيئاً بآخر يماثله دون أن تكون له رؤيةً خاصةً تجاه هذه الأشياء ، و ليس هناك ثمة تفاعل بينه و بينها ( تشبيه تمثيلي ) ، و ذلك مثل قولك ( الجندي كالأسد ) أو ( البناية كالجبل ) .
أما ( أبو العلاء المعري ) حين تعرَّض لذات البيئة نراه يقول :
كأنَّ نجوم الليل زرق أسنَّةٍ         بها كلُّ مَن فوق التراب طعينُ
فهو يشبه النجوم بالرماح الحادة المصوبة تجاه جميع الموجودات فوق الأرض تطعنها و تنال منها ، و هنا تتجلَّى فلسفة ( المعري ) تجاه الكون ، ذلك الكون المبني على الألم ، إنَّ نظرة المعري و رؤيته تُجمعان على عبثية الحياة ، و أنَّ هذه الحياة شقاء ، ألم يكن هو القائل :
هذا جناه أبي عليَّ         و ما جنيت على أحد
إنَّه ينظر إلى أنَّ أباه سببٌ في شقائه إذ كان سبباً في مجيئه لهذا الكون / الجحيم ، و هذا ما تجلَى في قوله :
كلٌّ على مكروهه مُبسلُ           و حازمُ  الأقوام  لا ينسلُ
فسلٌ   أبو   عالمنا   آدمٌ           و نحن  من  والدنا   أفسلُ
لو تعلم النحلُ بمشتارها            لم  ترها  في   جبلٍ  تعسلُ
و لهذا حين يُشبِّه النجوم بالرماح المشرعة نحونا و تطعننا جميعاً فهو يريد ما هو أكثر من تشبيه النجوم بالرماح ؛ إنَّه يبثُّ إلينا رؤيته كاملةً و فلسفته في تلك الصورة الإيحائية ، و التي تعدت كونها صورةً فوتوغرافية / تقريرية .
مثال آخر على الصورة التقريرية يتجلَّى في صورة تقشير التفاح بقصيدة ( أمل دنقل ) " خطاب غير تاريخي " ، يقول :
( نم يا صلاح الدينْ
نم .. تتدلَّى فوق قبرك الورودُ ..
كالمظليينْ !
و نحن ساهرون في نافذة الحنينْ
نُقشِّر التفاح بالسكينْ
و نسأل الله القروض الحسنه !
فاتحةً :
        آمينْ )
لكن هناك تفاحة أخرى تنتظرنا عند ( نزار قباني ) في قصيدته ( من علمني حباً .. صرت له عبداً ) و هي مثال على الصورة الإيحائية المحملة بفلسفة و رؤية صاحبها ، يقول :
( من علَّمني
كيف أُقشِّر كالتفاحة قلبي
حتى تأكل منه نساء الأرض جميعاً
كنت له عبداً )
و سأترك لكم التأمل في هاتين التفاحتين ، أقصد بين هاتين الصورتين لتتلمسوا بأنفسكم الفرق بين التقرير و الإيحاء ، و كيف بثَّ نزار فلسفته في تلك الصورة ، و كيف كان دنقل موفقاً أيضاً في ذلك التقرير المضيئ .

( 4-3 ) تحليل نصَّيّ :


يبدأ الشاعر قصيدته مخاطباً أنثاه قائلاً :
( عنيكِ زهرة دفا )
هكذا كانت البداية ، يصف عيني محبوبته بأنهما ( زهرة دفا ) ، و هو تركيب يعتمد في بنائيته على المضاف و المضاف إليه ، هذا المزج المبتكر بين الزهرة و الدفء ولَّد معانٍ جديدة لعينيها ؛ فهما في جمال و رقة و خجل الزهر ، و فيهما من الدفء و الحب و الحرارة و الطمأنينة ما يكفي لغمر الذات الشاعرة بكل دوال الرومانسية التي ينفتح عليها هذا التصوير الإيحائي .
هاتان ( العينان / زهرة الدفء ) لم يصفهما الشاعر بذلك الوصف إلا من خلال تاريخ قديم بينهما استحال إلى هذه الصورة الإيجابية في نظره .
و سرعان ما يضعنا الشاعر على طرفٍ نقيضٍ و ذلك حين يلتفت لذاته واصفاً عمره الذي يمضي و لمَّا يزل يحياه ، بقوله :
( و سنيني رعشة برد )
و هو تركيب اعتمد في بنائيته هو الآخر على المضاف و المضاف إليه ، و معروف أن ( الرعشة ) إحدى تنويعات دالة ( البرد ) و إحدى نواتجه الطبيعية ، و حين يصف سنينه بهذا التصوير إنما يقرر واقعاً حسيَّاً ملموساً ، و تكون صورته التقريرية تلك مقابلةً لصورة عيني حبيبته السابقة .
و للشاعر هنا براعةٌ عجيبةٌ حين وضعنا أمام حالين متناقضتين منذ بداية النص ؛ و هما – و على الرغم من تناقضهما – ليستا متنافرتين ؛ بل نرى أن إحداهما و هي الأولى بكل ما تحمل من دوالٍ ( إيجابيةٍ / رومانسية / دفء / جمال ) قادرة على أن تجذب إليها الثانية بكل ما تحمل من دوالٍ ( سلبيةٍ / واقعية / برودة / قسوة ) ، و هو الأمر الذي يبدو طبيعياً و منطقياً ، لكن الشاعر يفاجئنا بأن القوتين تنتابهما الشكوك و تحيط بهما علامات الاستفهام ، فنراه يتسائل :
(مين فينا حيعدي الحدود ؟
مين اللي يقدر يدخل التاني ؟
و مين يعرف طريق الانفلات ؟ )
لينشأ بذلك صراعٌ بين دوال ( الدفء / الرومانسية / الإيجابية ) و دوال ( البرد / الواقعية / السلبية ) ، ذلك الصراع الذي يمثل الحالة العامة للنص ، و الذي استهلَّ به الشاعر قصيدته بصورتيه المتقابلتين .
لكن ذلك الصراع الناشب ليس بين برودة سنين الشاعر و عيني محبوبته ؛ ذلك أنهما مطمحه و مطمعه ، لكننا نرى أحد طرفي ذلك الصراع و هو الذات الشاعرة و التي مازال حاضرها يخشى من ماضيها و يهاب مستقبلها ..
                        ( لسه السنين ..
بتخاف من الجاي و اللي راح )
و ليس من المرجوِّ أن ينشأ تفاوضَ بين ( رعشة البرد ) التي تحياها الذات الشاعرة و بين ( زهرة الدفا ) التي تنعم بها عينا محبوبته ؛ و ذلك لأن لغة الحوار لم تولد بعد ..
( لسه الحروف متشرنقة
كل الكلام اللي انتهى ..
جايز ما يرجعش )

و لربما وقفنا على الطرف الثاني للصراع ، و هو الماضي الذي يحول بين الذات الشاعرة – تلك التي تقف على الجانب السلبي – و بين رغبتها في الفكاك و الالتحام مع دفء زهرة عيني محبوبته – تلك التي تقف في الجانب الإيجابي .
و برغم ذلك الماضي ، و برغم تلك الأحداث - المسكوت عنها في النص – يخاطب الشاعر حبيبته قائلاً :
( و أنا لسه شايل بين حروفي فرحتك ..
و برتـلك ..
لحظة ما يبقى القلب بيخاصم عنيكِ ..
و ابدرك من أول التكوين ..
و انتهي لك .. )

و كأنَّ حبيبته جزء من ذلك ( الماضي / الطرف الثاني للصراع / المسكوت عنه ) لكن حبه لها يأبى إلا أن يرتلها كترنيمةٍ مقدسةٍ لحظة أن يغض طرف قلبه عن عينيها الدافئتين .. لينتهي إليها ثانيةً .
و لكنه ينتهي على حالٍ ليست من البرودة في شيء ( دمعتين ) و تكون هي في حالٍ ليست من الرومانسية في شيء ( جموح ) فيحدث تبادلاً في الأدوار و تستحيل الذات الشاعرة إلى ( دمعتين حارتين / عينين دافئتين ) و تستحيل محبوبته إلى ( جموح ) و قسوة و هياج ؛ ليبقى في نهاية النص ( سؤالاً ) سرمدياً لا إجابة له .
و على المستوى الدلالي للقصيدة كان هناك صراعاً موازياً بين دوال الدفء مثل ( زهرة / دفا / فرحتك / برتلك / عنيكِ / القلب / انتهي لك / دمعتين ) ، و دوال البرد مثل ( رعشة / برد / الحدود / الانفلات / بتخاف / راح / متشرنقة / انتهي / مايرجعش / بيخاصم / جموحك ) .
ذلك الصراع الموازي الذي استمدَّ وجوده منذ اللحظة الأولى للقصيدة من خلال التقابل التصويري الذي يُعد بمثابة براعة الاستهلال ؛ لاحتوائه على الحالة الرئيسة التي ألقت بظلالها على كامل النص ، و دارت معانيه في فلكها .
و هكذا نجحت أداة ( أحمد عواد ) التصويرية في عرض حالتين متناقضتين ، و صراعٍ مبتكرٍ لا نشعر إلا بنتائجه دون مقدماته و أحداثه ، و تحوّلٍ في الأدوار يدفعنا حتماً إلى قراءة النص ثانيةً في ضوئه .

( 5 ) خاتمة :


ها قد انتهينا إلى أن قصيدة العامية لا تقدم شيئاً منفصلاً عن تراثنا الشعري ، و إنما تقدم لنا وجهة نظرها لذلك الموروث ، إنها جزء من نسيجه لا يكاد ينفصم عنه و عن جمالياته و بلاغته ، إنها باختصار .. ( أدب عربي )
                                                                                                                                      

3 تعليقات